فصل: ذكرعزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله بن خالد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر عمر ابن الزبير وسيرته

كان له من العمر حين قتل اثنتان وسبعون سنة وكانت خلافته تسع سنين لنه بويع له سنة أربع وستين وكانت له جمة مفروقة طويلة‏.‏

قال يحيى بن وثاب‏:‏ كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنه حائطًا لسكونه وطول سجوده‏.‏

وقال غيره‏:‏ قسم عبد الله الدهر ثلاث حالات‏:‏ فليلة قائم حتى الصباح وليلة راكع حتى الصباح وليلة ساجد حتى الصباح‏.‏

وقيل‏:‏ أول ما علم من همة ابن الزير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر به رجل فصاح عليهم ففروا ومشى ابن الزبير القهقري وقال‏:‏ يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه ففعلوا‏.‏

ومر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو فقال له عمر‏:‏ مالك لم تفر معهم فقال‏:‏ لم أجرم فأخافك ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك‏.‏

وقال قطن بن عبد الله‏:‏ كان ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة‏.‏

قال خالد بن أبي عمران‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزير يطوف سباحةً‏.‏

قال هشام بن عروة‏:‏ كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف فكان لا يضعه من يده فكان الزبير يقول‏:‏ والله ليكونن لك منه يوم وأيام‏.‏

قال ابن سيرين‏:‏ قال ابن الزبير‏:‏ ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلا قوله‏:‏ فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي يعني المختار قال ابن سيرين‏:‏ ولا يشعر ابن الزيبر أن الحجاج قد خبئ له‏.‏

وقال عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري‏:‏ إن ابن عمر مر بابن الزير وهو مصلوب بعد قتله فقال‏:‏ رحمك الله أبا خبيب‏!‏ إنك كنت لصوامًا قوامًا ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها‏.‏وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه في مقابر اليهود وأرسل إلى أمه يستحضرها فلم تحضر فأرسل إليها‏:‏ لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك فلم تأته فقام إليها‏.‏

فلما حضر قال لها‏:‏ كيف رأيتني صنعت بعبد الله قالت‏:‏ رأيتك أفسدت على ابني دنياه وأفسد عليك آخرتك فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثنا أن‏:‏ في ثقيف كذابًا ومبيرًا فأما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار وأما المبير فأنت هو‏.‏

وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه‏.‏

وقال أبن الزبير لعبد الله بن جعفر‏:‏ أتذكر يوم لقينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنا وأنت فأخذ ابني فاطمة فقال‏:‏ نعم فحملنا وتركك ولو علم أنه يقول له هذا ما سأله‏.‏

  ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية

وفي هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمدًا على الجزيرة وأرمينية فغزا منها وأثخن في العدو وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يعرض لها أحد بل يأخذ منها من شاء فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه ثم صارت بعده لابنه مروان ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة عنهم وهي إلى الآن على هذه الحال من لحجر ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء‏.‏

وهذا الطريخ من عجائب الدنيا لأن سمكه صغير له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيرًا يؤخذ بالأيدي والآلات المصنوعة له فإذا انقض موسمه لا يوجد منه شيء‏.‏

  ذكر قتل أبي فديك الخارجي

قد ذكرنا سنة اثنتين وسبعين قتل نجدة بن عامر الخارجي وطاعة أصحابه أبا فديك وثبت قدم أبي فديك إلى الآن فأمر عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله فندبهم وانتدب معه عشرة آلاف فأخرج لهم أرزاقهم ثم سار بهم وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وهو ابن أخي عمر وجعل خيله في القلب وساروا حتى انتهوا إلى البحرين فالتقوا واصطفوا للقتال فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد فكشفوا ميسرة عمر حتى أبعدوا إلا المغيرة بن الملهب ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة بالميمنة وجرح عمر بن موسى‏.‏

فلما رأى أهل الميسرة أهل الميمنة لم ينهزموا رجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير لأن أميرهم عمر بن موسى جريحًا فحملوه معهم واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج وحمل أهل الكوفة من الميسرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر فنزلوا على الحكم فقتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة ووجدوا جارية عبد الله بن أمية حبلى من أبي فديك وعادوا إلى البصرة‏.‏

في هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشرًا في قول بعضهم فاجتمع له المصران الكوفة والبصرة فسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث‏.‏

وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فهزمهم‏.‏

وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا فهزمهم وأكثر القتل فيهم‏.‏

وحج بالناس هذه السنة الحجاج وكان على مكة واليمن واليمامة‏.‏

وكلن على الكوفة والبصرة في قول بعضهم بشر بن مروان وقيل‏:‏ كان على الكوفة بشر وعلى البصرة خالد بن عبد الله وعلى قضاء الكوفة شريح بن عبد الحارث وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وعلى خراسان بكير بن وشاح‏.‏

وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ودفن بذي طوى وقيل بفخ وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه فضرب ظهر قدمه بزج رمح مسموم فمات منها وعاد الحجاج في مرضه فقال‏:‏ من فعل بك هذا قال‏:‏ أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه‏.‏

وكان موته بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر وقيل غير ذلك وكلن عمره سبعًا وثمانين سنة‏.‏

وفيها مات سلمة بن الأكوع‏.‏

وأبو سعيد الخدري ورافع بن خديج‏.‏

ومالك بن مسمع أبو غسان البكري وقيل‏:‏ مات سنة أربع وستين وولد على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوفي سلم بن زياد بن أبيه قبل بشر بن مروان‏.‏

وأسماء بنت أبي بكر بعد ابنها توطأ أمه فطلقها‏.‏

وفيها مات عوف بن مالك الأشجعي وكان أول مشاهده خيبر‏.‏

ومعاوية بن حديج قبل ابن عمر بيسير‏.‏

وفيها مات معبد بن خالد الجهني وهو ابن ثمانين سنة وله صحبة‏.‏

وفيها قتل عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله مع ابن الزبير وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله وله صحبة‏.‏

رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة‏.‏

ومعاوية بن حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين

وفي هذه السنة عزل عبد الملك طارقا عن المدينة واستعمل عليها الحجاج فأقام بها شهرًا وفعل بالصحابة ما تقدم ذكره وخرج عنها معتمرًا‏.‏

وفيها هدم الحجاج بناء الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها وكان عبد الملك يقول‏:‏ كذب ابن الزبير على عائشة في أن الحجر من اليت فلما قيل له‏:‏ قال غير ابن الزبير إنها روت ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ وددت إني تركته

وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني‏.‏

  ذكر ولاية المهلب حرب الأزارقة

لما استعمل عبد الملك بشرا على البصرة سار إليها فأتاه كتاب عبد الملك بأمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة في أهل البصرة ووجوههم وكان ينتخب منهم من أراد أن يتركه وراءه في الحرب وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلًا شريفًا بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب وأمرهم أن يتبعوا الخوارج أين كانوا حتى يهلكوهم‏.‏

فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة وأمره أن ينتخب الناس من الديوان وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من عبد الملك فأوغرت صدره عليه حتى كأنه أذنب إليه فدعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له‏:‏ قد عرفت منزلتك عندي وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش الذي أسيره من الكوفة للذي عرفته منك فكن عند أحسن ظني بك وانظر إلى هذا الكذا كذا يقع في المهلب فاستبد عليه بالأمر ولا تقبلن له مشورة ولا رأيًا وتنقصه‏.‏

قال عبد الرحمن‏:‏ فترك أن يوصيني بالجيش وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام وأقبل يغريني بابن عمي كأني من السفهاء ما رأيت شخصًا مثلي طمع منه في مثل هذا قال‏:‏ فلما رأى أني لست بنشيط إلى جوابه قال لي‏:‏ مالك قلت‏:‏ أصلحك الله وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك فيما أحببت وكرهت‏!‏ وسار المهلب حتى نزل رامهرمز فلقي بها الخوارج فخندق عليه وأقبل عبد الرحمن في أهل الكوفة ومعه بشر بن جرير ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث وزحر بن قيس فسار حتى نزل على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران برامهرمز فلم يلبث العسكر إلا عشرًا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان توفي بالبصرة فتفرق ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة واستخلف بشر على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث‏.‏

وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الهواز فاجتمع بها ناس كثير فبلغ ذلك خالد بن عبد الله فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل ويحذرهم عقوبة عبد الملك فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطرًا أو سطرين قال زحر‏:‏ أوجز فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث‏.‏

وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الأهواز فاجتمع بها ناس كثير فبلغ ذلك خالد بن عبد الله فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل ويحذرهم عقوبة عبد الملك فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطرًا أو سطرين قال زحر‏:‏ أوجز فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث‏:‏ إن النفر لما بلغهم وفاة الأمير تفرقوا فأقبلنا إلى مصر وأحببنا أن لا ندخل إلا بإذن الأمير‏.‏

فكتب إليهم ينكر عليهم عودهم ويأمرهم بالرجوع إلى المهلب ولم يأذن لهم في دخول الكوفة فانتظروا الليل ثم دخلوا إلى بيوتهم فأقاموا حتى قدم الحجاج أميرًا‏.‏

  ذكرعزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله بن خالد

في هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكانت ولاية بكير سنتين‏.‏

وكان سبب عزله أن تميمًا اختلفت بها فصارت مقاعس والبطون يتعصبون لبحير ويطلبون بكيرًا وصارت أوف والأنبياء يتعصبون لبكير وكل هذه بطون من بني تميم فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم المشركون فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولايتعصبون عليه فاستشار عبد الملك فيمن يوليه فقال أمية‏:‏ يا أمير المؤمنين تداركهم برجل منك‏.‏

قال‏:‏ لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها‏.‏

قال‏:‏ يا أمير المؤمنين والله ما انهزمت حتى خذلني الناس ولم أجد مقاتلًا فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبةً بقيت من المسلمين للهلكة وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علم الناس ذلك‏.‏ فولاه خراسان‏.‏

وكان عبد الملك يحبه فقال الناس‏:‏ ما رأينا أحدًا عوض من هزيمة ما عوض أمية‏.‏

فلما سمع بكير بمسيرة أرسل إلى بحير وهو في حبسه وقد تقدم ذكر ذلك في مقتل ابن خازم يطلب منه الصلح فامتنع بحير وقال‏:‏ ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة‏.‏

ومشت السفراء بينهم فأبى ذلك بحير فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي فقال‏:‏ أراك أحمق‏!‏ يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره والسيف بيده ولو قتلك ما حبقت فلا تقبل منه‏!‏ اقبل الصلح واخرج وأنت على رأس أمرك‏.‏

فقبل منه وصالح بكيرًا فأرسل إليه بكير بأربعين ألفًا وأخذ عليه ألا يقاتله وخرج بحير فأقام يسأل عن مسير أمية فلما بلغه أنه قد قارب نيسابور سار إليه ولقيه بها فأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها ورفع على بكير أموالًا أخذها وحذره غدره وسار معه حتى قدم مرو وكان أمية كريمًا ولا يعرض لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى فولاها بحير بن ورقاء فلام بكيرًا رجال من قومه فقال‏:‏ كنت بالأمس أميرًا تحمل الحراب بين يدي فأصير اليوم أحمل الحربة‏!‏ ثم خير أمية بكيرًا أن يوليه ما شاء من خراسان فاختار طخارستان قال‏:‏ فتجهز لها فأنفق مالًا كثيرًا‏.‏

فقال بحير لأمية‏:‏ عن أتى طخارستان خلعك وحذره فلم يوله‏.‏

أسيد بفتح الهمزة وكسر السين‏.‏

وبحير بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء‏.‏

  ذكر ولاية عبد الله بن أمية سجستان

لما وصل أمية بن عبد الله إلى كرمان استعمل ابنه عبد الله على سجستان فلما قدمها غزا رتبيل الذي ملك بعد المقتول الأول وكان رتبيل هائبًا للمسلمين فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل يطلب الصلح وبذل ألف ألفٍ وبعث إليه بهدايا ورقيق فأبى عبد الله قبول ذلك وقال‏:‏ إن ملأ لي هذا الرواق ذهبًا وإلا فلا صلح‏.‏

وكان غرًا فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها وأخذ عليه الشعاب والمضايق وطلب أن يخلي عنه وعن المسلمين ولا يأخذ منه شيئًا فأبى رتبيل وقال‏:‏ بل يأخذ ثلاثمائة ألف درهم صلحًا ويكتب لنا به كتابًا ولا يغزو بلادنا ما كنت أميرًا ولا يحرق ولا يخرب‏.‏

ففعل وبلغ ذلك عبد الملك فعزله‏.‏

  ذكر ولاية حسان بن النعمان إفريقية

قد ذكرنا ولاية زهير بن قيس سنة اثنتين وستين وكان قتله سنة تسع وستين فلما علم عبد الملك قتله عظم عليه وعلى المسلمين وأهمه ذلك وشغله عن إفريقية ما كان بينه وبين ابن الزبير فلما قتل ابن الزبير واجتمع المسلمون عليه جهز جيشًا كثيرًا واستعمل عليهم وعلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني وسيرهم إليها في هذه السنة فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله‏.‏

فلما ورد القيروان تجهز منها وسار إلى قرطاجنة وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية ولم يكن المسلمون قط حاربوها فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر مالا يحصى كثرةً فقتلهم وحصرهم وقتل منهم كثيرًا فلما رأوا ذلك اجتمع رأيهم على الهرب فركبوا في مراكبهم وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس ودخلها حسان بالسيف فسبى ونهب وقتلهم قتلًا ذريعًا وأرسل الجيوش فيما حولها فأسرعوا إليه خوفًا فأمرهم فهدموا من قرطاجنة ما قدروا عليه‏.‏

ثم لاغه أن الروم والبربر قد اجمعوا له في صطفورة وبنزرت وهما مدينتان فسار إليهم وقاتلهم ولقي منهم شدةً وقوة فصبر لهم المسلمون فانهزمت الروم وكثر اقتل فيهم واستولوا على بلادهم ولم يترك حسان موضعًا من بلادهم إلا وطئة وخافه أهل إفريقية خوفًا شديدًا ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا بها وتحصن البربر بمدينة بونة فعاد حسان إلى القيروان لأن الجراح قد كثرت في أصحابه فأقام بها حتى صحوا‏.‏

  ذكر تخريب إفريقية

لما صلح الناس قال حسان‏:‏ دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة وكانت تخبرهم بأشياء من الغيب ولهذا سميت الكاهنة وكانت بربرية وهي بجبل أوراس وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة فسأل أهل إفريقية عنها فعظموا محلها وقالوا له‏:‏ إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك‏.‏

فسار إليها فلما قاربها هدمت حصن باغاية ظنًا منها أنه يريد الحصرن فلم يعرج حسان على ذلك وسار إليها فالتقوا على نهر نيني واقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وانهزم حسان وأسر جماعة كثيرة أطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي وكان شريفًا شجاعًا فاتخذته ولدًا‏.‏

وسار حسان حتى فارق إفريقية وأقام وكتب إلى عبد الملك يعلمه الحال فأمره عبد الملك بالمقام إلى أن يأتيه أمره‏.‏

فأقام بعمل برقة خمس سنين فسمي ذلك المكان قصور حسان إلى الآن وملكت الكاهنة إفريقية كلها وأساءت السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم‏.‏

ثم سير إليه عبد الملك الجنود والأموال وأمره بالمسير إلى إفريقية وقتال الكاهنة فأرسل حسان رسولًا سرًا إلى خالد بن يزيد وهو عند الكاهنة بكتاب يستعلم منه الأمور فكتب إليه خالد جوابه في رقعة يعرفه تفرق البربر ويأمره بالسرعة وجعل الرقعة في خبزة وعاد الرسول فخرجت الكاهنة ناشرةً شعرها تقول‏:‏ ذهب ملكهم فيما يأكل الناس‏.‏

فطلب الرسول فلم يوجد فوصل إلى حسان وقد احترق الكتاب بالنار فعاد إلى خالد وكتب إليه بما كتب أولًا وأودعه قربوس السرج‏.‏

فسار حسان فلما علمت الكاهنة بمسيره إليها قالت‏:‏ إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة ونحن إنما نريد المزارع والمراعي ولا أرى إلا أن أخرب إفريقية حتى ييأسوا منها‏.‏

وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها وهدموا الحصون ونهبوا الأموال وهذا هو الخراب الأول لإفريقية‏.‏

فلما قرب حسان من البلاد لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون من الكاهنة ويشكون إليه منها فسره ذلك وسار إلى قابس فلقيه أهلها بالأموال والطاعة وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء وجعل فيها عاملًا وسار إلى قفصة ليتقرب الطريق فأطاعه من بها واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة‏.‏

وبلغ الكاهنة قدومه فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد وقالت لهم‏:‏ إنني مقتولة فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أمانًا‏.‏

فساروا إليه وبقوا معه وسار حسان نحوها فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل حتى ظن الناس أنه الفناء ثم نصر الله المسلمين وانهزم البربر وقتلوا قتلًا ذريعًا وانهزمت الكاهنة ثم أدركت فقتلت‏.‏

ثم إن البربر استأمنوا إلى حسان فآمنهم وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفًا يجاهدون العدو فأجابوه إلى ذلك فجعل على هذا العسكر ابني الكاهنة‏.‏

ثم فشا الإسلام في البربر وعاد حسان إلى القيروان في رمضان من السنة وأقام لا ينازعه أحد إلى أن توفي عبد الملك‏.‏

فلما ولي الوليد بن عبد الملك ولى إفريقية عمه عبد الله بن مروان فعزل عنها حسانًا واستعمل موسى بن نصير سنة تسع وثمانين وعلى ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وقد ذكر الواقدي أن الكاهنة خرجت غضبًا لقتل كسيلة وملكت إفريقية جميعها وعملت بأهلها الأفاعيل القبيحة وظلمتهم الظلم الشنيع ونال من بالقيروان من المسلمين أذى شديد بعد قتل زهير بن قيس سنة سبع وستين فاستعمل عبد الملك على إفريقية حسان بن النعمان فسار في جيوش كثيرة وقصد الكاهنة فاقتتلوا فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة كثيرة وعاد حسان منهزمًا إلى نواحي برقة فأقام بها إلى سنة أربع وسبعين فسير إليه عبد الملك جيشًا كثيفًا وأمره بقصد الكاهنة فسار إليها وقاتلها فهزمها وقتلها وقتل أولادها وعاد إلى القيروان‏.‏

وقيل‏:‏ إنه لما قتل الكاهنة عاد من فوره إلى عبد الملك واستخلف على إفريقية رجلًا اسمه أبو صالح غليه ينسب فحص صالح‏.‏